• ×
السبت 18 شوال 1445 | منذ 4 يوم

الأعضاء

الأعضاء:8

الأعضاء الفعالون: 1

انضم حديثًا: هيمو

المتواجدون الآن: 21

أكثر تواجد للأعضاء كان 377 ، يوم 44-05-13 الساعة 12:37 صباحاً

( 0 عضو 21 زائر )

الواقعية والصدق والجمال في رواية «حيموت»

الواقعية والصدق والجمال في رواية «حيموت»
في الصحراء تستهوينا أشياء لا نستطيع غالبًا الحديث عنها، ونجد أننا مدفوعون إلى حبها والذهاب إليها رغم غياب ما يبرر هذا الحب ويغذيه في دواخلنا. قد نعجب ويعجب كل مستمع إلينا من هذا الهيام بأرض قاحلة لا تستقر بها حتى رمالها، صخورها متناثرة لا وشيجة تربطها، وهدوء جبالها -على شموخها- وصمتها يدخلان الروع في نفسك فتهابها، وقد لا تلتفت إلى جمالها، لا سيما منظر زروعها المتفرقة واليابسة، حتى تكاد لا تتبين اللون الأخضر فيها، ويمنعك شوكها عن لمسها والتأكد من الحياة التي تسري في أوصالها، لذلك لا نحير جوابًا عندما نسأل عن هذا العشق، فجلنا لا يعرف السر الذي يربط البدوي بصحرائه! قد نهرب من تلكم الأسئلة بمقولة رائجة تجري غالبًا على ألسنة المحبين، فنقول: «خذ عيني لتراها». ولعلي أقولها بتجرد، لن يدرك ما تمثله الصحراء لنا نحن أهل البادية، إلا من جرب عشقها، وشعر بتلك الابتسامة التي تتصاعد عنوة وتشرق على شفاهنا كلما أقبلنا عليها، وتمرغنا في رمالها، واستمتعنا بها وهي تلفح وجوهنا.
شيء واحد يمكن الحديث عنه عندما نحاول تبرير هذا التعلق، هو الروح التي تستوطن الأشياء، عندما تشعر بها في رمال الصحراء ووديانها وأشجارها وشوكها وجبالها وصخورها وكل ما يتعلق بها، حتى ذلك البدوي الذي جرده لفح شمسها، وذرات رمالها، وهبات رياحها، وقسوتها على أبنائها، من كل ملامح الجمال، في ملبسه، ولون بشرته، وشدته وغلظته... مع ذلك، تجده يحتل قيمته الجمالية بالروح التي تسكنه، وتجعلك تشعر أن ما لا تطيقه في أهل المدن قد لا ترى للصحراء جمالًا بدونه.

هذا الإحساس تسربل في داخلي بعد أن انتهيت من تصفح رواية «حيموت» للكاتبة السعودية فاطمة عبدالله الدوسري، التي أعادتنا إلى الصحراء، وأجبرتنا على المكوث فيها ردحًا من القراءة قبل انتقالنا إلى الحضر، وكأنها تعمدت رسم خطوط هذا العشق، وإيقاف القارئ على نزر يسير من أسرارها، وجعله ينفذ إلى مخطوطتها من خلالها؛ وما زالت بنا حتى عشقنا الحكاية وتعلقنا بها وتماهينا معها، ونحن نتابعها في توظيفها للحديث عن القسوة التي يعيشها أبناء الصحراء، خاصة إذا تعلق الأمر بالمرأة، وكيف أنها عندما تتخلص من هذا الاضطهاد تستطيع أن تشق طريقها وتبني مستقبلها، في وقت كانت منصفة وهي تبين أن الأمر لا ينسحب على رجال الصحراء جميعهم، فهناك أبٌ لم يتخلق بأخلاقهم، وكان رحمة مزجاة لابنته، وما كانت ستضام لولا رحيله المفاجئ؛ وأخٌ شفوق كان سبب نجاتها وإنقاذها من أخ آخر كاد ينهي الحكاية قبل بدايتها لو تمكن منها.
هي حكاية اجتماعية بسيطة، ليس فيها تعقيد، ولا تستهدف أفكارًا كبيرةً، وربما يظن بها افتقارها للأصالة في فكرتها المحورية، لكنها جميلة، تشعرك بحميمية تجاهها لأسباب غير معلومة، بالضبط كما هي الصحراء! لكن، لا أقصد أن يفهم من ذلك أن الرواية لا تمتلك شيئًا من مقاييس الجمال أو من قوة الأعمال السردية، بقدر ما هي تيمة تجمع بينهما؛ نجدها في الروح التي ترسم جمال معظم الأشياء التي نحبها ولا نستطيع استظهارها. فرواية «حيموت» تشعرك بجمالها وتعلقك بها دونما معرفة بسر هذا التعلق، حين تجد نفسك لا تنتظر حدثًا معينًا، ولا تهتم بمفاجأة روائية، ولا تتعجل بلوغ النهاية، ولست معنيًا على الإطلاق بتنامي الأحداث وعقدتها وفكها، ولا تلتفت إلى بناء الشخصيات وتعدد أصواتها، أو تعدد الأزمنة والأمكنة وشعرية السرد وواقعيته ومنطقيته، ولا تهتم بأسلوبيتها على الصعد كافة... وإنما تجد متعتك الحقيقية في مداومة القراءة والتنقل عبر أحداثها، متجردًا من كل أدواتك القرائية النقدية؛ فالرواية في ظني لم تكتب من أجل ذلك كله، رغم أنك قد تجده بين ثناياها، فهي لم تغفل ثيمة للسرد أو بناءً أسلوبيًا إلا ومرت عليه، وأظهرته بالقدر الذي تحتاج إليه، بدون تكلف أو تقتير؛ ولئن كان مرورها على بعض أساسيات السرد يلتحفه الحياء، ولم يعط حقه، فإن البعض -ولعلي أكون منهم- ينظر إليه على أنه مزية، فهي ليست معدة كغيرها في مصنع السرد المتكلف بهدف إرضاء أطراف معينين، كأصحاب التوجهات الفكرية، أو معتنقي الأفكار الثورية، أو القائمين على الجوائز، أو اللعب على الغرائز والأحوال النفسية، أو امتطاء صهوة الغرائبية، أو الاشتغال على المعاني العظيمة كالوطنية والأيديولوجية، أو حتى الاستحواذ على من تستهويهم القشرة السطحية ولا يحبون الغوص في الأعماق، أو، لا يحسنون اللعب في هذه المناطق التي تحتاج ذائقة معينة وقدرات عقلية.
إعلان

لم تلتفت الكاتبة -فيما يبدو- إلى كل ذلك، رغم وجود معظمه، وإنما اشتغلت فقط على الواقعية والصدق والجمال وإتقان الكتابة، وبنت قوتها على تلقي القارئ وفهمه الجيد لما تريد قوله كسرد جميل يمتعك دون الاشتغال به. تحضرني هنا مقولة رائعة للناقدة الأستاذة الدكتورة طاطة بن قرماز من الجزائر، يمكن أن تلخص ما نود الحديث عنه، حيث تقول: «الخطاب الأدبي الفني الناجح هو الذي لا يقول كل شيء داخل اللغة الخطية المنطوقة بل هو ذلك الخطاب الذي تتعزز قواه الدالة بمختلف الدعامات الإيقاعية الناهضة على جنبات النص». والمعنى المستهدف من هذه العبارة الجذلة أن النص الأدبي الجيد هو الذي يقول أكثر بكثير من اللغة المكتوبة، أي المكتنز بمعان تتجاوز النص بكثير، وهي سمة تخص بالفعل الأعمال الإبداعية التي تجعلك تغوص كثيرًا في دلالاتها وسيميائياتها، وتكتشف الكثير من المعاني المخبأة داخل النص، وتحتاج -كما يقول عبدالقاهر الجرجاني- لذائقة وعبقرية حتى تكتشفها؛ وهو ما اجتهدت للحديث عنه في قراءتي لهذه الرواية، إذ لم أر فائدة تذكر من الحديث عنها انطلاقًا من المدارس النقدية المتعددة، رغم إمكانية ذلك، واكتفيت -على استحياء- بالبنيوية، اقتداءً بعالم اللغويات السويسري الشهير «فرديناند دي سوسور»، وتحديدًا بالأسلوبية البنيوية التي وجدت فيها ضالتي، لعشقي للمعاني العميقة وكرهي للسطحية التي ابتليت بها معظم كتاباتنا الحالية؛ فمفرداتها تحتمل معان متعددة تدفعك للغوص في ثناياها والإبحار من خلالها في معان أكثر من رائعة، قد لا يدركها القارئ العادي، كقولها في ص: 14 «أحيانًا تمر بي شجرة جفت أغصانها، أنهكتها مقاومة الشمس والريح والعطش، فسلمت جسدها الهزيل لأول زوبعة صغيرة مرت بها، لتدحرجها في استسلام تام وتترك أشلاءها المتناثرة دون نحيب! أتأمل المشهد حتى تبتعد وتختفي» (انتهى كلامها). هذا المشهد البسيط الذي تصفه الكاتبة يمر به كل من يذهب إلى الصحراء، إذ غالبًا ما يشاهد تلكم الشجيرات الصغيرة اليابسة التي تستبيح بيضتها الرياح، فتدفعها بلا شفقة ولا رحمة، استحضرتها الكاتبة بذكاء وبقدرة على توظيف المجاز البلاغي؛ فالشجيرة قد تكون تلك الفتاة التي قست عليها الحياة فانعدمت قدرتها على المقاومة واستسلمت لمصيرها، وهو ما نراه بالفعل في سياق هذه السردية، فـ»حيموت» عاشت هذا التيبس والاستسلام في أكثر من منعطف، حتى بلوغنا النهاية. هذا الواقع -للأسف- تعيه بالفعل كثير من الفتيات في بعض المجتمعات الذكورية، بل يعيشه كثير منا عندما تسلبه الحياة القدرة على توجيه دفتها، والتحكم بمصيره، فيستسلم لتقلباتها وأقدارها، ويخضع لسلطانها، وتظل تقذف به في كل مكان، ولا يوقف حركته إلا بعض العقبات التي قد تعترض من يتحكم به ويحاول الهيمنة على قراره، فتبقيه في أحد المواقع قليلًا من الوقت.
يعتبر ذلك شاهدًا من الشواهد الكثيرة على البنيوية الأسلوبية الرائعة التي كانت حاضرة في البناء السردي المخضب بالمعاني الرصينة، كقولها أيضًا في ص 16: «لم تفهم أبلة منيرة سر ابتسامتي الضاحكة وأنا أتهيأ للجلوس في مقعدي في الصف الثاني/ب، لم ترصد شعورًا دغدغ طفولتي بالفرح وأنا أرى رقية تجلس على أحد المقاعد وتبتسم لي، ....» نجدها هنا تصور المشهد بعبارة بسيطة جدًا، قد تشعر البعض بسطحيتها وعدميتها وعدم جواز الاستدلال بها، بينما هي عميقة وتفيض بالمعاني كسابقتها، عندما تصور الفرحة التي تشعر بها طفلة عشقت الدراسة وأجبرت على ترك المدرسة ثم عادت إليها، فعبرت عن انتصارها بابتسامة غير مبررة لا يعرف سببها، وهو ما يمكن بالفعل ملاحظته في السلوك الإنساني العفوي، حيث نجد المرء في لحظة الفرح والانتصار يبتسم دونما سبب، ويكون هذا الأمر أكثر وضوحًا لدى الأطفال، لبراءتهم وعفويتهم وتلقائيتهم. إنه مشهدٌ بالغ الدلالة، أوصل الرسالة دون الحاجة للاستغراق في الوصف الكتابي، وهو ما تكرر في أكثر من موضع، إذ نجده أيضًا في قولها ص72: «عندما يكون البعد في العلاقة بيني وبين أمي «سراء» احتياج غلفه الحب يظل العبور الزمني مسافة تواصل روحي يذيب الفوارق لدرجة الوقوف عند أي نقطة أو موقف لنحصل على نفس المشاعر» (انتهى كلامها). نجد الكاتبة هنا تتحدث عن فارق السنين الذي قد يرسم العلاقة بين البشر، ويختزلها في سلوكيات معينة متعارف عليها، كالاحترام والتوقير، أو العطف والرحمة، أو الندية والمقابلة، أو حتى الظلم والتعدي والاستهانة والسخرية... نجد كل هذه السلوكيات -سيئها وحسنها- تضيع عندما تكون العلاقة وليدة احتياج قوي مغلف بالحب، كتلك التي تربط فتاة يتيمة بوالدتها حيث اقتصرت الأسرة عليهما فقط. كان الوصف دقيقًا جدًا، يصور حال فتاة لا تملك من حطام هذه الدنيا غير والدتها، أصبحتا أختين وصدقتين تفضي كل منهما بمشاعرها ومخاوفها إلى الأخرى، فجاء الوصف مخضلًا بالمعاني ولم يكن قشرة سطحية لا تلبث أن تزول وتذهب أدراج الرياح.
في الصفحة 103 نتأمل قولها: «في اللحظة التي يولد فيها شيء جديد في أعماقنا نشعر بالخوف ونجفل، نقف أمام بوابة التردد طويلًا، ومن خلفنا تجري أسراب الحكايات والقصص» (انتهى كلامها). تصوير بديع للصراع الذي يعتمل في داخلنا عند ميلاد شعور جديد غير واضح المعالم، لم نألفه بعد، يتعلق بشخص بدأ يصنع حكايتنا ويستحوذ على كينونتنا ويشاركنا كل قراراتنا بعد امتلاكه نبض قلوبنا، تلك اللحظة التي نتردد كثيرًا قبل انزلاقنا في متاهاتها وعدم استطاعتنا الخروج منها لاحقًا. كذلك قولها: «داخل كل إنسان عبرات تهطل بلا استئذان ولا يستطيع أحد أن يرفع صوته بالنحيب خشية أن يتهم بالجنون فلا يجد أمامه إلا أن يصمت ويتجرع الألم» (ص 163). يتحدث الوصف هنا عن الآلام التي تعتصرنا نتيجة مواقف تراكمية لم تنته ولم تعالج في حينها، فنجد أنفسنا نجترها في لحظة دونما سبب واضح، تجتاحنا رغبة بالصراخ أو البكاء، ولا يمنعنا غير الخوف من اتهامنا بالجنون. هذه اللحظة التي تتحدث عنها الكاتبة هي وصف دقيق جدًا لمحفوظاتنا في العقل الباطن الذي يحمل معه بعض المشاعر السلبية التي لا نلبث أن نعود لتذكرها في بعض الأوقات، وتستلزم ردة فعل معينة لا نجرؤ عليها، وهو ما يفسر الحزن الذي يظهر فجأة ونراه في المحيطين بنا، أو حتى الفرح، من دون ارتباطهما بأسباب حسية آنية تبررهما.
في النهاية، لا بد من القول إن هذه السردية تمثل -بالنسبة لي- القيمة الحقيقية للسرد غير المتكلف والبسيط، الذي يعد مثالًا حيًا لما كان ولا يزال ينادي به الناقد الألماني المعاصر «هانس روبيرت ياوس» في نظريته المتعلقة بجمال التلقي، فهي تمتعك بقراءتها، وتمنحك الدفء المعرفي، وتزجي وقتك بطريقة مفيدة، وتغذي ذائقتك بجمال الأسلوب الكتابي وبساطته، من دون إدخالك في متاهات تقنيات السرد ودهاليز فنونه الحديثة المتطورة، وأظنها نجحت كثيرًا في هذا الباب، حتى أنني لم أعد أهتم، وقد انتهيت منها، بتلك الملاحظات التي دونتها بداية، وتمنيت لو لم تقع فيها الكاتبة، كالضبابية التي رافقت بداية الحكاية، وعدم قدرتها على تأسيسها بطريقة واضحة وقوية، ما تسبب بإشكالية الفهم والحاجة لمعاودة القراءة للوصول إلى المعنى، كذلك إغفالها اقتناص المفاجآت الروائية وتوظيفها لخلق إثارة وتشويق يحتاج إليها المتلقي لزيادة ارتباطه بالعمل، وتصريحها بما سيحدث لاحقًا دون عذر مقبول، والأهم أنها لم تبن على فكرة أصيلة تستحق سردها... وهي مطبات قد ينظر إليها البعض على أنها أخلت بجودة العمل وقللت من قيمته، لكنني عند اندفاعي في القراءة تجاوزت كل ذلك، فـ»حيموت» لم تحفل -في ظني- إلا بواقعية السرد، والصدق، والجمال، ورصد واقع معين شكل منعطفًا في حياة أبناء الجزيرة العربية، ويحتاج لمعاودة التفكر فيه بالبساطة التي يمثلها، وعلينا قراءتها من هذه الزاوية.
بواسطة : admin
 0  0  192
جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +3 ساعات. الوقت الآن هو 12:22 صباحاً السبت 18 شوال 1445.
Powered by Dimofinf CMS v5.0.0
Copyright© Dimensions Of Information.

الحقوق محفوظة @ hopish.net